"كانت بالنسبة لي الدنيا متكونة من سلطة ومال
يا أدهس خلق الله برجلي .. يا أسرق وأبقى رجل أعمال
جه الأولتراس نور طريقي ووصلني لعالم الخيال
فكرة تمحي هموم الدنيا وتخرج مني الضلال
بعد العتمة وبعد الشدة كان لا بد من طريق
ياخد بإيدي وبإرادتي وأعرف فيه معنى الصديق
..
حاولتوا كتير تكتموا صوتنا بس ده كان مستحيل
عندي قضية أهم مني والموت أهون لي كتير
إعلام وشرطة وصحافة ومسؤولين كورة فاسدين
حرب عليكم هتفضل قايمة لحد ما يتم التطهير"
من أغنية "أسلوب حياة" لمجموعة أولتراس "وايت نايتس"، مشجعي نادي الزمالك
عن الأوهام وضلالات النشطاء
أول ما تعلمته في الحراك السابق للثورة هو التحلي بقدر من الشجاعة كي أسأل: ما الذي يجعلني أعترف بشيء ما كــ"قاعدة"؟ من الذي سنّ القواعد؟ ولماذا عليّ أن أطيعها؟ هل لدي الحق في العصيان؟ وكيف سأعترض؟ أو بالأحرى كيف سنتعرض "نحن"؟ وما هي تداعيات أفعالنا؟ وماذا ستكون ردود أفعالنا تجاه هذه التداعيات؟ وكيف سنقوم بالتصعيد؟
ولكن قبل طرح كافة التساؤلات، لا ينبغي أن ننسى البداية: لماذا ينبغي لنا أن نؤمن بأن شيئاً ما "قاعدة" أو "مسلّمة"؟
لماذا نؤمن بالأوهام؟ أوهام الاستقرار مقابل الفوضى، وأوهام الأمن مقابل الكرامة (من المهم أن نفرق بين الأمن والأمان)، وأوهام دور الدولة ووظائف البنى التنظيمية، وخرافات الإصلاح من داخل النظام، ووهم "عملية" التغيير التي قد تستغرق أعمار أجيال متعاقبة. في الحقيقة، كانت التعبئة الميدانية في مصر محاطة بالكثير من الأوهام أيضاً؛ مثل "إننا عشرات من النشطاء وهم آلاف من الضباط والجنود"، و"إننا دوماً نتظاهر دون أن ينضم إلينا الناس، ياله من شعب جبان!". فضلاً عن أوهام أخرى؛ مثل أن قوات الأمن دوماً أقوى منّا، وأن الشعب يسلك مسلك العبيد ولن يتغير أبداً، أو حتى أن الجوع أهم من الديمقراطية لذلك علينا أن نعذرهم، وختاماً بالوهم الاستسلامي القائل بأن "هذا الشعب لا يستحق الحرية". والملاحظ في هذه الأوهام احتواؤها على كثير من الضمائر مثل "نحن" و"هم" دون تحديد دقيق لمن "نحن" أو لماذا يسلكون "هم" مسلكاً مختلفاً!
لذلك كان الدرس الأول في الخبرة الثورية المصرية في التعبئة الجماهيرية هو تحرير العقل من الأوهام والتحلي بالشجاعة الكافية للسؤال وإعادة التساؤل.
أما الدرس الثاني، فلم يستغرق كثيراً من الوقت، ذلك لأن أحداً لم يجب تساؤلاتنا، فعرفنا أن الدرس الثاني هو أن نجد الإجابة بأنفسنا. فإذا عجزنا عن إيجادها فعلينا أن نصنع إجابتنا الخاصة. لقد كلفتنا معرفة أخطائنا – كشباب من الناشطين سابقاً والثوريين لاحقاً – أن ننظم ونشارك في مئات الأنشطة الميدانية، وحملات التوعية، والوقفات الصامتة، وكتابة الشعارات، ورسم الجرافيتي، ولصق المواد الترويجية، بجانب التظاهرات السياسية والحقوقية. وكان من التوفيق أن نعترف بفشلنا في تعبئة الكتلة الحرجة المطلوبة لإحداث ما كنا نتطلع إليه من تغيير شامل. وقد صار واضحاً أنه ما من حركة سياسية واحدة أو حزب منفرد يستطيع أن يصنع التغيير المنشود، لذلك لم يكن السؤال عمن ينبغي له أن يشارك، فمشاركة جميع الأطراف لم تكُ اختياراً.
كنا قد وصلنا لذروة النقاء الثوري حيث كان المصريون إما "مع" أو "ضد"، بلا وسط بينهما. أو بتوضيح أكبر، كان على المصريين كلهم في هذه اللحظة أن يكونوا ضد الفساد والظلم والتعذيب، ولا يستثنى من ذلك سوى أولئك الذين يطلق عليهم "زبائن النظام" المنتفعين به، والذين يحرصون على مصالحهم مهما كان الثمن الذي يدفعه الشعب خارج دوائرهم الشخصية والعائلية. فلم يكن لدينا رفاهية إقصاء أي حركة أو حزب مشارك، أو يحتمل أن يشارك، في التظاهر والاحتجاج. لكن التحدي الرئيسي كان في تطوير خبرتنا الفاشلة في العمل الائتلافي وإصلاح عطبها لمقاومة الاختراق الأمني من أجل تشكيل تحالف صحي أكثر إنتاجية.
نقطة تحـــول .. من الواقع المعتــاد إلى الحلم
وأتى عام 2010، أو المخاض الثوري الذي شهد عدداً من الفعاليات التعبوية والتصعيدات، فصار عام الذورة في القمع والتعذيب والتزوير الانتخابي والإقصاء السياسي من قبل الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، فضلاً عن تسارع مشروع توريث السلطة لمبارك الابن. وكان لعودة محمد البرادعي وتدشين الحملة الشعبية لدعمه كمرشح رئاسي مناسب دور مهم أيضاً في تحريك المشهد العام، وكذلك تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير وإطلاق حملة التوقيعات على مطالب التغيير (الإصلاحية) السبعة. ومن ناحية أخرى، لا ينبغي أن ننسى الاحتجاجات العمالية المتصاعدة منذ عام 2007، حيث تشجع مئات الآلاف من العمال والموظفين على الفعل ورد الفعل ميدانياً ضد الفساد والسياسات النيوليبرالية، مواجهين في ذلك أعداد ضخمة من قوات الأمن.
لا أود أن أكون اختزالياً بالمبالغة في تقدير تأثير قضية خالد سعيد، ذلك الشاب العشريني الذي تم تعذيبه حتى الموت في الشارع الذي يسكنه أمام حشد من الناس بالإسكندرية. وقد كتبت مقالاً مطولاً أنقد فيه تحيّزات النشطاء التي جعلت من هذه القضية شيئاً مختلفاً وملهماً رغم أنها لم تكن الأبشع. وأرفض كلياً فكرة ترميز خالد سعيد كأشهر ضحايا نظام مبارك، ذلك لأني أصر على على النقاش الأكثر صدقاً للتحيزات الطبقية في قضية خالد سعيد، والتأثير العاطفي للصورة الرقمية غير الدقيقة المنشورة له بعد قتله، وكذلك دور موقع الحادث الجغرافي وسهولة المواصلات المؤدية إليه، وغيرها من عوامل. لكني رغم نقدي لقضية خالد سعيد، لا يمكن أن أنكر أن هذه القضية قد تم استثمارها لتحويل التعبئة الميدانية إلى الاتجاه الصحيح، حيث أصبح الناس العاديون أغلبية عددية في الفاعليات وأمسى النشطاء أقلية، للمرة الأولى في عهد مبارك.
وبالعودة إلى الأوهام، دعونا نتساءل: من الذي قال إن هناك قاعدة تلزمنا بالتظاهر فقط في وسط المدينة وميادينها الواسعة، على سلالم نقابة أو محكمة؟! فبقليل من التفكير أدركنا الحقيقة الجليّة، وهي أن وسط المدينة يقطنه قليل من السكان، والزحام المشهود فيه هو بسبب المشاة أو الزائرين أو الباعة الجائلين أو أناس مشغولين بقضاء حوائجهم. والحقيقة الواضحة الأخرى هي أن فعالية التظاهر في الميادين الواسعة تتطلب أعداداً ضخمة من المشاركين حتى يمكن للمشاة والمارة ملاحظتهم. وبما أننا عشرات من النشطاء، سواء في القاهرة أم الإسكندرية، فمن السهل جداً أن نحاط بالمئات أو الآلاف من قوات الأمن فاقدين بذلك الميزة الوحيدة لوسط المدينة، وهي أن نكون في مكان واضح مرئي جيداً من قبل المارة. هاتان الحقيقتان الواضحتان تم تأكيدهما عشرات المرات، بما في ذلك أول فاعلية للتضامن مع خالد سعيد، حيث تجمع عدد صغير من النشطاء اليساريين أمام قسم شرطة سيدي جابر، فكانت العاقبة مواجهة أليمة جسدياً وقانونياً مع مئات من الضباط والجنود في شارع واسع يسهل السيطرة عليه أمنياً. فاختتمت الأمسية التضامنية بكسر نظارة الناشطة ماهينور المصري بصفعة من ضابط شرطة، وتلفيق قضية للناشط حسن مصطفى تم الحكم عليه فيها بالسجن فيما بعد.
أخيراً، قمنا بتصحيح تحركاتنا، فأقمنا صلاة الغائب في جامع سيدي جابر، أقرب المساجد المناسبة للفاعلية القريبة من منزل خالد سعيد. فلم نذهب – كما هو المعتاد في أغلب الفاعليات بما فيها صلوات الجنازة والغائب المسيسة – إلى جامع القائد إبراهيم، أشهر مساجد الإسكندرية ذي الساحة النظيرة لميدان التحرير في القاهرة. فقد صار لنشطاء الإسكندرية "قاعدة" أن نقيم كل فاعليات المعارضة الجماهيرية في محيط جامع القائد إبراهيم، لذلك حررنا عقلنا الجمعي من هذا "التابو" وذهبنا لنقطة التقاء أخرى أقرب لمنزل الضحية. وقد أقمنا المظاهرة التالية في مكان أقرب لبيت خالد سعيد في ميدان كليوباترا الصغير بشارع بورسعيد، وذلك من أجل جذب أكبر عدد ممكن من جيرانه. أما المظاهرتان الثالثة والرابعة فكانتا في المكان ذاته، مع قدرة أكبر على مراوغة قوات الأمن وسط حماية جموع الناس في حي سكني مزدحم. وقتئذٍ وجدنا أن الناس العاديين المشاركين في الوقفة صاروا أغلبية من مئات، وأمسينا نحن النشطاء والمنظمين تلك الأقلية التي كنا نحلم أن تكون كتلة حرجة تشعل تفاعلات أكبر منها بكثير.
لقد تعلمنا الكثير. ومما تعلمناه أننا لم نكن أكثر إنسانية أو حرصاً على الدفاع عن حقوقنا من الناس العاديين، لكننا في الحقيقة كنا أغبياء بما يكفي لتجاوز المنطق. فالمنطق كان يصرخ قائلاً إن مجموعة صغيرة مترابطة جيداً من النشطاء يمكنها أن تنتقل بسهولة إلى الشوارع والميادين المزدحمة، حيث يلتقون بمعاناة الناس ويحفزونهم للمشاركة، ويسهل عليهم ضم المتفرجين. المنطق أيضاً كان يحاول أن يخبرنا أن هذا أسهل ألف مرة من دعوة الناس إلى القدوم خصيصاً في مكان مختلف من المدينة لا يسكنونه، حيث عليهم أن يركبوا المواصلات العامة أو يبحثوا عن ركنة مناسبة لسياراتهم الخاصة، ثم يبحثوا عن المتظاهرين في المكان المعلن، ثم يخترقون الطوق الأمني حولنا، لينضموا في النهاية إلى المهرجان المعتاد من المواجهات الجسدية حيث يتم ضربنا بكثافة والتحرش بنا واعتقالنا.
خلال هذه الفترة، النصف الثاني من 2010، كان أولئك الناشطون الإصلاحيون سابقاً يختزنون ذكريات النقاشات والمناظرات مع أصدقاء الحالمين من الحركات الاشتراكية الثورية، بالإضافة إلى مجموعة صغيرة من الأناركيين. هذه الذكريات يسترجعونها الآن من لاوعيهم كلما تعرض المسار الثوري للتهديد بالمساومات السياسية الإصلاحية. فالثوريون الأوائل كانوا يحلمون بالثورة مرددين اقتباسات مركبة من أدبيات اليسار ومراجع ما بعد البنيوية، وكانوا يفعلون ذلك حين كان التحليل "العقلاني" لكل من الأفراد والمؤسسات يعجر عن التفكير خارج الصندوق البنيوي التنظيمي.
لذا كان الدرس الثالث: بعد أن تفعل أقصى ما تستطيع، احلم بأقصى ما يمكنك. نشّط خيالك، وآمن بأحلامك.
الشباب هم القادة .. والشعب هو المعلم
في ذلك الوقت السابق للثورة، كانت معضلتنا أن نصل لحل وسط بين الالتزام بالقاعدة الشهيرة، في الوحدة قوة وفي التفرق ضعف (يمكن اعتبارها الدرس الرابع)، وبين تجاهل الأجيال الديناصورية من السياسيين المعارضين دون إضاعة الكثير من الوقت في جدالات غير مجدية. لذلك وجدنا حلاً – في الإسكندرية – بتشكيل لجنة للتنسيق بين شباب القوى السياسية والوطنية ضمت ممثلين عن كل من: الحملة الشعبية لدعم البرادعي ومطالب التغيير، وحركة شباب 6 أبريل، وحركة الاشتراكيين الثوريين، الحركة الشعبية من أجل الديمقراطية (حشد)، وشباب من أجل العدالة والحرية، وممثلين لشباب الإخوان المسلمين وأحزاب الجبهة الديمقراطية، والغد، والكرامة. وكنا على تنسيق وتفاعل مع كافة الأنشطة التي دعا إليها أول منبر تعبوي إلكتروني ناجح، وهو صفحة كلنا خالد سعيد، التي أنشأها وائل غنيم وشاركه في إدارتها وتحرير محتواها عبد الرحمن منصور. وأؤكد أنها كانت أول أداة إلكترونية ناجحة في الحشد لأن دعواتها للفاعليات الميدانية والوقفات الصامتة بالملابس السوداء وجدت استجابات غير مسبوقة، في حين أن إضراب أبريل 2008 كان قد دعي إليه ميدانياً من عمال المحلة الكبرى، مدينة الغزل والنسيج، ثم أنشأ أحمد ماهر مجموعة إلمترونية على فيسبوك للترويج للدعوة نفسها، قبل أن يصير مؤسساً لحركة 6 أبريل ومنسقاً عاماً لها في يونيو 2008.
كان لزاماً علينا أن ننسق فيما بيننا، وأن نقوم بالتشبيك الأفقي، وأن نتعاون بشكل مرن، وأن تكون فاعلياتنا متعددة القيادة. وقد وضعنا قواعدنا الخاصة؛ فلا شعارات حزبية، ولا أعلام لفصائل أو حركات، ولا هتافات بأسماء أشخاص، ولممثلي كل حركة أو حزب صوت واحد في الاجتماعات التنسيقية، وليس للجنة التنسيق منسق دائم أو أمين سر ثابت، وليس لنا مقر محدد لاستضافتنا، ولا التزامات إجبارية على أي طرف لن يناسبه المشاركة في الفاعلية التالية، وفي حالة عدم مشاركة أحد الكيانات في إحدى الفاعليات فعلى ممثل هذا الكيان ألا يضيع وقت الآخرين في مناقشة التفاصيل، وغيرها من القواعد التي أبدعتها العقول المحررة من الأعراف البيروقراطية وبروتوكلات الأجيال الديناصورية من الساسة "المخضرمين".
وحين تصاعدت الأحداث في تونس، حتى كللت ثورة الياسمين بهروب زين العابدين بن علي، ألهمتنا أيما إلهام. فقد رأينا الحلم بالثورة الشعبية يتحقق في ذاك المساء المطير، حيث لم نعد واثقين من أين أصابنا البلل؛ أهي زخات المطر على شاطيء المدينة الأبيـّـة أم دموع الفرح المنهمرة على خدودنا؟ ليلتها احتفلنا بمزيج من الأمل والغيرة، فقد آمنا أننا نستطيع أن نفعلها، فقد فعلها أشقاؤنا في تونس.
انتشرت الدعوة لإظهار الغضب في الذكرى السنوية لعيد الشرطة، الموافق يوم 25 يناير. وعقدنا الاجتماعات التحضيرية في مقر الحملة الشعبية لدعم البرادعي ومطالب التغيير، وقد صار الحفاظ على أقصى درجات السرية بين كل حركة والأخرى هو السلوك الحاكم. ووضعنا الخطة ليلة 24 يناير للبدء من الأحياء الشعبية والفقيرة لتحفيز جموع الناس غير المسيّسة على المشاركة في التحرك والزحف. وكان السجال قد اشتعل عبر موقع فيسبوك، ما بين تعليقات سخيفة، وتهديدات، ومخاوف، وإصرار.
"أنا مش هعمل "حضور" في إيفينت الثورة" .. وجوه باسمة .. مشاركة مقالات لكتاب مشهورين يهاجمون إرادة المصريين ويزعمون أن "مصر ليست تونس" .. "أنا سأشارك، لكني شاكك" .. "أنا راجع من السفر مخصوص وهشارك وليكن ما يكون" .. إلخ.
بدأنا الزحف من الأحياء الشعبية والفقيرة، واخترنا هتافات موجهة لاحتياجات الناس اليومية المفقودة، ولحقوقهم الأساسية المنتهكة. كان يحدونا الأمل أن ينضم الناس لعشراتنا فنصير بالمئات. كانت البداية في تمام الساعة الثانية ظهراً بتقدير مبدئي أننا سنسير لمدة ساعتين في مسارات مخططة سلفاً. لم يكن في خطتنا أن نهتف ضد مبارك أو أن نطالب بإسقاط النظام، حفاظاً على أكبر قدر من المشاركة دون إخافة الناس العاديين غير المسيّسين. لكننا لم نلبث بعد دقائق معدودة أن فقدنا السيطرة على الآلاف من المتظاهرين الزاحفين من الناس العاديين الذين هتفوا "يسقط يسقط حسني مبارك"، وما هي إلا لحظات حتى رددوا الهتاف التونسي الخالد "الشعب يريد إسقاط النظام". التهب حماسنا بمشاركة غير متوقعة من كل الفئات، فإذا بنقّاش ينضم للمسيرة بملابس العمل المليئة ببقع الطلاء وهو ينادي على زميله: "تعال شارك. أنت مش مصري؟" وإذا بالنساء في الشرفات يدعمننا بالماء والعصائر، وكثير من الابتسامات والتشجيع والمشاركة في الهتاف، فضلاً عن المشاركات معنا مع الناشطات وغيرهن من المواطنات. وإذا بالهتافات تتوالد تلقائياً ويرج البيوت نداء "انزل .. يا مصري". ثم تصل الجموع إلى المقر الصيفي لرئاسة الوزراء بشارع أبي قير في منطقة "فلمنج" فيستلق المتظاهرون أضخم صورة لحسني مبارك بالإسكندرية ويمزقونها، للمرة الأولى والأخيرة، بالتوازي مع الجموع المحتشدة في أماكن عدة من عروس البحر المتوسط التي كانت تمزق صوره وصور ابنه جمال بأيديها وتشق أفق السماء بأصواتها.
زحفنا لأكثر من أربع ساعات في خطوط سير متعرجة بأعداد غير قابلة للتحكم من أناس عاديين غاضبين. وقد شهدتُ ما يقرب من عشرة آلاف مشارك في المسيرة التي بدأت بقيادة مشتركة بيني وبين الناشط محمد عبد الكريم، بالتوازي مع ست أو سبع مسيرات أخرى في الإسكندرية وحدها. عشرات المسيرات أيضاً كانت في القاهرة والسويس وكفر الدوار ودمنهور والمحلة الكبرى والإسماعيلية، وما يقرب من عشر مدن أخرى في أنحاء مصر. وقد عرف الناس ما ينبغي لهم أن يفعلوه. فبعضهم قد تطوع تلقائياً لتتنظيم المرور، والبعض أقام حواجز بشرية بين المتظاهرين وبين كل نقطة وقسم شرطة مررنا عليه، وحتى منزل مدير أمن الإسكندرية بشارع الإقبال حمته مجموعات من المتظاهرين حيث كانت أسرته داخله تشاهدنا دون قلق، ويومها وُلد الشعار الشهير "سلمية .. سلمية".
الدرس الخامس: ثقوا في الناس. الشعب هو المعلم.
"ما في حاكم إلا من خيال محكوم"* .. ولا ثورة إلا من خيال ثائر
بذل الناس ما في وسعهم لتفادي القتال. ففي الإسكندرية، زحفت المسيرات كـدودة أكثر من مرة حينما حاولت التشكيلات الأمنية أن توقفها في الشوارع الضيقة. وكالعادة، لا تقع المواجهات العنيفة إلا في الشوارع الواسعة والميادين. فانتهت السلمية حينما بدأت مئات الآلاف من قوات الأمن بأنحاء مصر في استخدام الرصاص والغاز المسيل للدموع والمواجهات البدنية. وسقط الشهداء أولاً في السويس، فتحول يوم الغضب إلى انتفاضة. بدأت الانتفاضة عملياً يوم الجمعة 28 يناير واستمرت حتى المعركة المعروفة إعلامياً بموقعة الجمل في ميدان التحرير يوم 2 فبراير، وحينها تطورت الانتفاضة إلى ثورة حقيقية.
صار لمصر ثورة شعبية بها الكثير من السرديات لتروى، والمئات من الأفلام الوثائقية لتصنع، والآلاف من القصص المفقودة. إنها قصص البطولة المستحيلة، والشهداء الذين تلوا الشهداء، قصص ارتفاعات الموج الثوري وانخافاضاته، الآمال والآلام، كيف ذهب مبارك إلى السجن، وكيف خرجت منه السلطة الحاكمة الآن، كيف أتى المجلس العسكري إلى الحكم، وكيف أفسدت السياسة نقاء المطالب الثورية في "العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية". ولا تتوقف القصص عند المحاكمات الهزلية لعصابة مبارك، ولا لمهرجان البراءة لجميع قتلى الثوار، بل تمتد المآسي للمحاكمات العسكرية لأكثر من عشرة آلاف مدني في مدة زمنية قياسية. قصص تتراوح بين الضحك والدموع، بين الدعوات لمليونيات في ميدان التحرير وشوارع الإسكندرية لا يشارك فيها سوى العشرات، وبين استقطاب إسلاموي-علماني، وبين استفتاء مخزٍ على تعديلات دستورية معيبة في مارس 2011 لم يلبث المجلس العسكري أن أصدر بعده إعلانا دستورياً يحوي أضعاف المواد المستفتى عليها.
مرت الشهور كالدهور، حتى فقدنا الأمل في إمكانية أن نعيد بناء قدرتنا على الحشد، ذلك الذي ظنننا أن الإسلاميين قد احتكروه. لكن المجلس العسكري حين أظهر وجهه القبيح في نوفمبر 2011، نادى شارع محمد محمود ومذبحته على المصريين ليدافعوا عن ثورتهم، فخرج الملايين إلى شوارع أكثر من 17 مدينة مصرية، واحتشد أكثر من مليون مواطن في ميدان التحرير بالقرب من شارع محمد محمود. واعتبرناها الموجة الثورية الثانية حين هبّت الجموع رافضة تكرار مذبحة ماسبيرو حين دهست المركبات العسكرية رؤوس المواطنين الأقباط في أكتوبر 2011، فانضمت الحشود متضامنة مع المعتصمين السلميين وأهالي الشهداء والمصابين.
وعادت الملاحم البطولية تستكمل سطورها بمداد من دماء الثوار، وكتب التاريخ الحيّ قصصاً تروى للأجيال. ولو نسيت كل ذكرياتي منها فلا يمكنني أبداً أن أنسى ذلك الفتى المشرد الذي بادر بحماية إحدى الطالبات الجامعيات ساحباً إياها من خطوط المواجهات في شارع محمد محمود، بعد أن كادت تفقد الوعي بسبب كمية الغازات المهولة التي استخدمها الجيش ضد المدنيين. وبعد أن صارت في مأمن نسبي، قال لها الفتى ذو البضعة عشر خريفاً إنها وزميلاتها متعلمات و"بنات ناس"، في حين أنه وأقرانه غير مهمين وعديمو الثمن، مطالباً إياها أن تبتعد عن الخطر وتتركهم ليموتوا بدلاً عنها كي تعيش هي وزملاؤها ويبنوا البلد بعد تطهيرها من الحكومة.
الدرس السادس: إذا كانت السياسة ينبغي أن تُعقل، فالثورة يجب أن تُشعر. إن المشاعر والدوافع المعنوية النبيلة لا يمكن احتواؤها بالأبنية التنظيمية. والتنظيمات السياسية لا يمكنها أبداً أن تتحكم في الحراك السائل.
ولا يزال الشعب يريد وكما تجدد الأمل في الخيال في أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء والعباسية، فإن المخاوف أيضاً قد تجددت بعد وصول الرئيس الإخواني للسلطة بشرعية الصناديق. تشكك الثوار في قدرتهم على مواجهة الجماعة الأكثر تنظيماً، ومؤيديها الأكثر دوجمائية من أطياف الشارع السلفي والإسلاموي. لكن الحقيقة أن هذه التخوّفات احتوت على عدة مغالطات، أكبرها على الإطلاق وهم أن هناك "ثواراً ما" يحشدون الجماهير، وأنهم في منافسة تعبوية مع الإسلاميين عموماً والإخوان خصوصاً. والخطأ الكبير الثاني هو فقدان كل من كلمتي "الثوار" و"الفلول" لمعانيهما بسبب الابتذال والاتهامات المتراشقة من ناحية، وبسبب تحالف بعض من يحسب على الثورة مع رموز النظام البائد فيما أسموه جبهة الإنقاذ الوطني، من ناحية أخرى.
وحين أصدر محمد مرسي إعلانه الدستوري السلطوي في نوفمبر 2012، عادت الجموع الغفيرة في مسيرات ضخمة وصلت حتى باب قصره. وأثبتت الحشود الثورية خصائصها الزئبقية، فهي ليست في صلابة وانضباط التنظيمات الحزبية والهياكل الهرمية، ولا يحركها قادة محددون، وليست في انطفاء السوائل الباهتة التي قد تتبخر إذا اشتدت عليها وطأة قمع الحديده والنار. فحشود الثورة معدنية لكنها سائلة، ومنسابة لكنها براقة ولامعة، وإذا حاولت السلطة احتواؤها أو ابتلاعها أصيبت بالتسمم الزئبقي.
الحشود الزئبقية تدعوها الحاجة الشعبية غير المؤدلجة لاستكمال الثورة على الظلم والطغيان والقمع والقهر والانحياز للأغنياء. وهي خير من تلبي النداء غير مقودة بزعامات جوفاء كثيراً ما تخون مباديء الثورة الشعبية المدنية، فيستنجدون بالخارج أو يستغيثون بالعسكر. وإذا أردنا استخلاص درس أخير لمعرفة كيف تتم تعبئة الجماهير في الثورة السائلة المصرية، فإن الدرس السابع هو: أن نتذكر الدرس الأول، وأن نحرر عقولنا من القواعد، لنصنع قواعدنا بأنفسنا من جديد.
...
في الكورة حياتي لكن لبلادي أموت
وأفديها بعمري راح زمن السكوت
دي الثورة اتولدت فكرة ولا يمكن تموت
فارس عايش للنضال .. كل سلاحه العقلية
ثابت حافر في الجبال .. خطوة لأرض الحرية
ثورة ونضال .. أسلوب حياة
جزء في عقليتي مافهمهوش الطغاة
قالوا شرطة في خدمة شعب وكنا احنا العبيد
قتلونا وكتموا في صوتنا بالنار والحديد
جهلة والقمع حياتهم وخيالهم مريض
اقتل واسجن إيه الجديد؟
ابني سجونك علّيها
مهد الثورة في العقول
انسى بظلمك تمحيها
تضرب في غاز .. تضرب رصاص
جيلنا من الموت .. ما بقاش بيخاف خلاص
وفي كل مكان في بلادي سامع صوت شهيد
بحياته بيكتب غنوة للفجر الجديد
حرية وجوا بلادنا مش هنعيش عبيد
بين الثورة والكفاح .. دم شهيد الحرية
يكتب لبلاده النجاح .. ينهي عصور القمعية
ينهي الفساد مهما يطول الزمان
نكتب بإيدينا تاريخ أغلى الأوطان
من أغنية شمس الحرية، لأولتراس "وايت نايتس" مشجعي نادي الزمالك.